مجتمع

طرابلس وحَراك 17 تشرين: “الثّورة” مرّت من هنا

لا شيء في طرابلس أمس دلّ على أنّ حَراك 17 تشرين الأوّل 2019 قد مرّ في المدينة، أو أنّ عاصمة الشّمال كانت ذات يوم “عروس الثورة” و”أيقونتها”. المدينة بدت وكأنّها غير معنية بـ”الثورة” لا من قريب ولا من بعيد، لولا تجمّع خجول ضمّ بضع عشرات من المواطنين في ساحة عبد الحميد كرامي ـ ساحة النّور، التي أطلق البعض عليها إسم “ساحة الثّورة” تيمّناً، وهتافاتهم المؤيدة لـ”ثورة” أضحت مجرّد ذكرى.

عندما اندلعت شرارة الحَراك الشّعبي قبل سنتين احتجاجاً على قرار الحكومة وضع ضريبة على خدمة “الواتس أب”، تحوّلت طرابلس إلى ساحة رئيسية للإحتجاج ضد هذا القرار، قبل أن تستقطب على نحو تدريجي الأنظار من مختلف المناطق اللبنانية، لتشهد في الأيّام التالية توافد مئات المواطنين إليها للإحتفال بـ”الثورة” وسلميتها، كما جذبت إليها قنوات التلفزة ووكالات الأنباء الأجنبية لتغطية أخبارها، أكثر من أيّ منطقة لبنانية أخرى، إلى حدّ أنّ محتجّين كثر فضّلوا التوجّه مع عائلاتهم إلى طرابلس على البقاء في مناطقهم، بهدف التظاهر والمشاركة في نشاطات “الثورة” المختلفة، خصوصاً بعدما تحوّلت ساحة الإعتصام -التي بقيت مقفلة لفترة طويلة- إلى “هايد بارك” وملتقى للعديد من المواطنين من مختلف الأطياف والمناطق.

غير أنّ هذه الصورة الجميلة عن “الثّورة” وطرابلس معاً، وخصوصاً صور التجمّع الحاشد للمواطنين في السّاحة ليلاً، ورفعهم هواتفهم الخليوية وهي مضاءة، سرعان ما بدأت تتراجع بعدما أصاب “الثّوار” الملل، وبدأ استقطاب المواطنين والحشود يخفّ تدريجياً، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ كلّ هذا الحَراك لم يثمر شيئاً، ولم يؤدِ إلى النتائج المرجوة، بالتزامن مع بدء انهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع أسعار السلع.

شيئاً فشيئاً بدأ الحَراك يخرج عن سلميته، وبدأت أعمال الشّغب ليلاً على وجه التحديد، والتعدّي على المواطنين وأملاكهم تتسع مثل بقعة الزيت، فضلاً عن اعتصامات ليلية أمام منازل نوّاب ووزراء المدينة، إرتفعت معها أصوات العديد من السكّان تشكو من تجاوزات “الثّوار”، وسط معلومات بدأت تتسرّب من هنا وهناك تتحدث عن اختراق الأجهزة الأمنية والأحزاب والتيّارات السياسية لـ”الثورة” من أجل إجهاضها وتحييدها عن مسارها.

لم يطل الإنتظار، إذ سرعان ما تحوّلت “الثّورة” إلى أعمال شغب، وبدأت الإعتداءات تطال المحال التجارية والمصارف التي أُحرق بعضها، والمطاعم والمقاهي التي فرض عليها “الثّوار” خوات، ما دفعها إمّا إلى الإذعان أو الإغلاق، وانتشار الفوضى وإطلاق النّار والإشكالات الفردية وقطع الطرقات، ما أجبرالأهالي على البقاء في بيوتهم وعدم الخروج منها إلا للضرورة، أو الخروج من المدينة.

إنحراف الثّورة عن مسارها وصل ذروته عندما أقدم “ثوّار” في 28 كانون الثاني 2021 على إحراق مبنى المحكمة الشّرعية الكائن في سرايا طرابلس الحكومي، قبل أن يقدموا في الليلة ذاتها على إحراق مبنى بلدية المدينة، ما ترك غضباً كبيراً في المدينة إحتجاجاً واستياء من تجاوزات “الثوار” الذين بدأ كثيرون يصفونهم بـ”الزعران”، الذين كانوا يقومون باعتصامات دائمة أمام سرايا طرابلس ضد محافظ الشمال رمزي نهرا، وأمام المراكز والدوائر الرسمية في طرابلس، التي توقف العمل بها أيّاماً عدّة.

هذه التجاوزات دفعت الجيش اللبناني والقوى الأمنية بعدما حصلوا على الضوء الأخضر والغطاء السّياسي، إلى إعادة فتح السّاحات والشّوارع في طرابلس بالقوّة، وفضّ ما تبقّى من مظاهر الإعتصامات، ما أسهم بعودة الحياة تدريجياً للمدينة.
قبل أيّام من الذكرى الثانية لحَراك 17 تشرين الأول، صدرت دعوات عدّة في طرابلس للتجمّع والتحرّك والنّزول إلى الشّوارع من أجل “إحياء الثورة” مجدّداً، لكنّ الإستجابة لها كانت شبه غائبة، لولا تجمّع قلّة في ساحة كرامي ـ النّور أمس.

تكفي عملية رصد سريعة لتعليقات بعض النّاشطين في المدينة للخروج بهذا الإنطباع، مع إستثناءات قليلة؛ سامر دبليز، عضو في حملة “طرابلس مدينتي”، قال: “17 تشرين ستبقى ذكرى جميلة بالبال، كي تثمر مسيرتها يوماً ما هي بحاجة للكثير من الأعمال”، بينما رأى أحمد عبد الله، مرشّح سابق للإنتخابات البلدية، أنّ “ذكرى 17 تشرين الأوّل حلم جميل تحوّل إلى كابوس”، في حين اعتبر خالد صبح (محامي) أنّه “لم يكن أحد من المندفعين جاهزاً ليعترف بالآخر، فمارسوا حرب الإلغاء ضد بعضهم حتى تفوقوا على السياسيين، وفي النهاية فشلت الثورة لأنه لم يكن هناك من رؤية أو مشروع ثورة”.

من جهته، أشار رامي أسوم (مهندس) إلى أنّ “طرابلس تبدو اليوم وكأنّ ما من ثورة مرّت بها”، كما لفت عمر لبابيدي (مقرب من الجماعة الإسلامية) أن “طرابلس قامت بواجبها كاملاً، أخذت العلامة كاملة وضميرها مرتاح، لكن لا يمكن لمدينة وحدها أن تثور عن باقي المدن والمكونات”. أما طارق المبيض (ناشط) فاعتبر أنّ “17 تشرين الأوّل ضخّت دماءً جديدة في جسد طرابلس المتهالك، وأعادت لها شيئاً من رونقها المديني وحركت المجتمع المدني الراكد، وشكّلت نقطة وصل بين طرابلس الشعب وطرابلس النُخَب”.

عبد الكافي الصمد

عبد الكافي الصمد

صحافي لبناني حاصل على شهادة الإجازة في الإعلام من جامعة الجنان في طرابلس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى